سورة المؤمنون - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


قوله: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} قال الفراء: {قد} ها هنا يجوز أن تكون تأكيداً لفلاح المؤمنين، ويجوز أن تكون تقريباً للماضي من الحال؛ لأن قد تقرّب الماضي من الحال حتى تلحقه بحكمه، ألا تراهم يقولون: قد قامت الصلاة قبل حال قيامها، ويكون المعنى في الآية: أن الفلاح قد حصل لهم وأنهم عليه في الحال، والفلاح الظفر بالمراد والنجاة من المكروه. وقيل: البقاء في الخير، وأفلح إذا دخل في الفلاح، ويقال: أفلحه: إذا أصاره إلى الفلاح، وقد تقدّم بيان معنى الفلاح في أوّل البقرة. وقرأ طلحة بن مصرف {قد أفلح} بضم الهمزة وبناء الفعل للمفعول.
وروي عنه أنه قرأ: {أفلحوا المؤمنون} على الإبهام والتفسير، أو على لغة أكلوني البراغيث.
ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون} وما عطف عليه. والخشوع منهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات والعبث، وهو في اللغة السكون والتواضع والخوف والتذلل.
وقد اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها؟ على قولين: قيل: الصحيح الأوّل، وقيل: الثاني. وادّعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته، حكاه النيسابوري في تفسيره. قال: ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان} [محمد: 24]. والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله: {أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي} [طه: 14]. والغفلة تضادّ الذكر، ولهذا قال: {وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين} [الأعراف: 205]. وقوله: {حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. نهي للسكران والمستغرق في هموم الدنيا بمنزلته. واللغو، قال الزجاج: هو كل باطل ولهو وهزل ومعصية وما لا يجمل من القول والفعل، وقد تقدم تفسيره في البقرة. قال الضحاك: إن اللغو هنا الشرك.
وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. ومعنى إعراضهم عنه: تجنبهم له وعدم التفاتهم إليه، وظاهره اتصافهم بصفة الإعراض عن اللغو في كل الأوقات، فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولاً أوّلياً كما تفيده الجملة الإسمية، وبناء الحكم على الضمير، ومعنى فعلهم للزكاة: تأديتهم لها، فعبر عن التأدية بالفعل لأنها مما يصدق عليه الفعل، والمراد بالزكاة هنا: المصدر؛ لأنه الصادر عن الفاعل، وقيل: يجوز أن يراد بها العين على تقدير مضاف، أي والذين هُم لتأدية الزكواة * فاعلون. {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون}: الفرج يطلق على فرج الرجل والمرأة، ومعنى حفظهم لها: أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحلّ لهم. قيل: والمراد هنا: الرجال خاصة دون النساء، بدليل قوله: {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} للإجماع على أنه لا يحل للمرأة أن يطأها من تملكه.
قال الفراء: إن {على} في قوله: {إِلاَّ على أزواجهم} بمعنى: {من}.
وقال الزجاج: المعنى: أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم فأمروا بحفظه إلا على أزواجهم ودلّ على المحذوف ذكر اللوم في آخر الآية. والجملة في محل نصب على الحال. وقيل: إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ، أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم. وقيل: المعنى: إلا والين على أزواجهم وقوّامين عليهم من قولهم: كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان. والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوّجهم أو تسرّيهم، وجملة: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} في محل جرّ عطفاً على أزواجهم، و{ما} مصدرية. والمراد بذلك: الإماء، وعبر عنهنّ ب {ما} التي لغير العقلاء؛ لأنه اجتمع فيهنّ الأنوثة المنبئة عن قصور العقل وجواز البيع والشراء فيهنّ كسائر السلع، فأجراهن بهذين الأمرين مجرى غير العقلاء، وجملة: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} تعليل لما تقدّم مما لا يجب عليهم حفظ فروجهم منه.
{فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذلك فأولئك هُمُ العادون} الإشارة إلى الزوجات وملك اليمين، ومعنى العادون: المجاوزون إلى ما لا يحلّ لهم، فسمى سبحانه من نكح ما لا يحلّ عادياً. ووراء هنا بمعنى: سوى وهو مفعول ابتغى. قال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك فمفعول الابتغاء محذوف، و{وراء} ظرف.
وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة، واستدلّ بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء لأنه من الوراء لما ذكر، وقد جمعنا في ذلك رسالة سميناها: بلوغ المني في حكم الاستمنا، وذكرنا فيها أدلة المنع والجواز وترجيح الراجح منهما.
{والذين هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون} قرأ الجمهور: {لأماناتهم} بالجمع. وقرأ ابن كثير بالإفراد. والأمانة: ما يؤتمنون عليه، والعهد: ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه أو جهة عباده، وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا، والأمانة أعمّ من العهد، فكل عهد أمانة، ومعنى {راعون}: حافظون. {والذين هُمْ على صلواتهم يحافظون} قرأ الجمهور: {صلواتهم} بالجمع. وقرأ حمزة والكسائي: {صلاتهم} بالإفراد، ومن قرأ بالإفراد فقد أراد اسم الجنس وهو في معنى الجمع. والمحافظة على الصلاة إقامتها والمحافظة عليها في أوقاتها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها.
ثم مدح سبحانه هؤلاء فقال: {أولئك هُمُ الوارثون} أي الأحقاء بأن يسموا بهذا الاسم دون غيرهم. ثم بين الموروث بقوله: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} وهو أوسط الجنة، كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان، وفيه استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم.
وقيل: المعنى: أنهم يرثون من الكفار منازلهم حيث فرقوها على أنفسهم؛ لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار. ولفظ الفردوس لغة رومية معرّبة، وقيل: فارسية. وقيل: حبشية. وقيل: هي عربية. وجملة: {هُمْ فِيهَا خالدون} في محل نصب على الحال المقدّرة، أو مستأنفة لا محل لها، ومعنى الخلود: أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة.
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن المنذر والعقيلي، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب قال: كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدويّ النحل، فأنزل الله عليه يوماً فمكثنا ساعة، فسريّ عنه فاستقبل القبلة فقال: «اللّهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا»، ثم قال: «لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنة»، ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} حتى ختم العشر. وفي إسناده يونس بن سليم الصنعاني. قال النسائي: لا نعرف أحداً رواه عن ابن شهاب إلا يونس بن سليم ويونس لا نعرفه.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، والنسائي وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن، ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنين؟ اقرأ: {قد أفلح المؤمنون} حتى بلغ العشر، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير، والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون}.
وأخرجه عبد الرزاق، عنه، وزاد: فأمره بالخشوع فرمى ببصره نحو مسجده.
وأخرجه عنه أيضاً عبد بن حميد، وأبو داود في المراسيل، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن بلفظ: كان إذا قام في الصلاة نظر هكذا وهكذا، يميناً وشمالاً، فنزلت: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون} فحنى رأسه.
وروي عنه من طرق مرسلاً هكذا.
وأخرجه الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عنه عن أبي هريرة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون} فطأطأ رأسه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سيرين بلفظ: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون رؤوسهم وأبصارهم إلى السماء في الصلاة يلتفتون يميناً وشمالاً، فأنزل الله: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون} فمالوا برؤوسهم فلم يرفعوا أبصارهم بعد ذلك في الصلاة، ولم يلتفتوا يميناً وشمالاً.
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن عليّ: أنه سئل عن قوله: {الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون} قال: الخشوع في القلب، وأن تلين كتفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خاشعون} قال: خائفون ساكنون.
وقد ورد في مشروعية الخشوع في الصلاة والنهي عن الالتفات وعن رفع البصر إلى السماء أحاديث معروفة في كتب الحديث.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ} قال: الباطل.
وأخرج عبد الرزاق، وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد: أنه سئل عن المتعة فقال: إني لأرى تحريمها في القرآن، ثم تلا: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون * إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم}.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني عن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23]. {والذين هُمْ على صلاتهم يحافظون} قال: ذلك على مواقيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، قال: تركها كفر.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، والحاكم وصححه عن أبي هريرة في قوله: {أولئك هُمُ الوارثون} قال: يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: {أولئك هُمُ الوارثون}».
وأخرج عبد بن حميد، والترمذي وقال: حسن صحيح غريب عن أنس، فذكر قصة، وفيها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها»، ويدلّ على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم: 63]. وقوله: {تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. ويشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى» وفي لفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فكاكك من النار».


لما حثّ سبحانه عباده على العبادة ووعدهم الفردوس على فعلها، عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إلى آخره، واللام جواب قسم محذوف، والجملة مبتدأة، وقيل: معطوفة على ما قبلها، والمراد بالإنسان: الجنس؛ لأنهم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم، وقيل: المراد به آدم. والسلالة فعالة من السلّ، وهو استخراج الشيء من الشيء، يقال: سللت الشعرة من العجين، والسيف من الغمد فانسلّ، فالنطفة سلالة، والولد سليل، وسلالة أيضاً، ومنه قول الشاعر:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا *** سلالة فرج كان غير حصين
وقول الآخر:
وهل هند إلا مهرة عربية *** سلالة أفراس تجللها بغل
و {من} في: {مِن سلالة} ابتدائية متعلقة ب {خلقنا}، وفي: {مِن طِينٍ} بيانية متعلقة بمحذوف، وقع صفة لسلالة، أي كائنة من طين، والمعنى: أنه سبحانه خلق جوهر الإنسان أوّلاً من طين؛ لأن الأصل آدم، وهو من طين خالص وأولاده من طين ومنيّ، وقيل: السلالة: الطين إذا عصرته انسلّ من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة، قاله الكلبي {ثُمَّ جعلناه} أي: الجنس باعتبار أفراده الذين هم بنو آدم، أو جعلنا نسله على حذف مضاف إن أريد بالإنسان آدم {نُّطْفَةٍ} وقد تقدّم تفسير النطفة في سورة الحج. وكذلك تفسير العلقة والمضغة. والمراد بالقرار المكين: الرّحم، وعبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة، ومعنى {ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي أنه سبحانه أحال النطفة البيضاء علقة حمراء {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي قطعة لحم غير مخلقة {فَخَلَقْنَا المضغة عظاما} أي جعلها الله سبحانه متصلبة لتكون عموداً للبدن على أشكال مخصوصة {فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً} أي أنبتَ الله سبحانه على كل عظم لحماً على المقدار الذي يليق به ويناسبه {ثم أنشأناه خلقاً آخر} أي نفخنا فيه الروح بعد أن كان جماداً. وقيل: أخرجناه إلى الدنيا. وقيل: هو نبات الشعر. وقيل: خروج الأسنان. وقيل: تكميل القوى المخلوقة فيه، ولا مانع من إرادة الجميع، والمجيء ب {ثم} لكمال التفاوت بين الخلقين {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} أي استحق التعظيم والثناء. وقيل: مأخوذ من البركة، أي كثر خيره وبركته. والخلق في اللغة: التقدير، يقال: خلقت الأديم: إذا قسته لتقطع منه شيئاً، فمعنى {أحسن الخالقين}: أتقن الصانعين المقدّرين، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وب *** عض القوم يخلق ثم لا يفري
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيّتُونَ} الإشارة بقوله: {ذلك} إلى الأمور المتقدّمة، أي ثم إنكم بعد تلك الأمور لميتون صائرون إلى الموت لا محالة {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} من قبوركم إلى المحشر للحساب والعقاب.
واللام في {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} جواب لقسم محذوف، والجملة مبتدأة مشتملة على بيان خلق ما يحتاجون إليه بعد بيان خلقهم. والطرائق: هي السموات. قال الخليل والفراء والزجاج: سميت طرائق؛ لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. قال أبو عبيدة: طارقت الشيء جعلت بعضه فوق بعض، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وقيل: لأنها طرائق الملائكة. وقيل: لأنها طرائق الكواكب {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غافلين} المراد بالخلق هنا: المخلوق، أي: وما كنا عن هذه السبع الطرائق وحفظها عن أن تقع على الأرض بغافلين.
وقال أكثر المفسرين: المراد الخلق كلهم بغافلين بل حفظنا السموات عن أن تسقط، وحفظنا من في الأرض أن تسقط السماء عليهم فتهلكهم أو تميد بهم الأرض، أو يهلكون بسبب من الأسباب المستأصلة لهم، ويجوز أن يراد نفي الغفلة عن القيام بمصالحهم وما يعيشون به، ونفي الغفلة عن حفظهم.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء} هذا من جملة ما امتن الله سبحانه به على خلقه. والمراد: بالماء ماء المطر، فإن به حياة الأرض وما فيها من الحيوان، ومن جملة ذلك ماء الأنهار النازلة من السماء والعيون، والآبار المستخرجة من الأرض، فإن أصلها من ماء السماء. وقيل: أراد سبحانه في هذه الآية الأنهار الأربعة: سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، ولا وجه لهذا التخصيص. وقيل: المراد به: الماء العذب، ولا وجه لذلك أيضاً فليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، ومعنى {بِقَدَرٍ}: بتقدير منا أو بمقدار يكون به صلاح الزرع والثمار، فإنه لو كثر لكان به هلاك ذلك، ومثله قوله سبحانه: {وَإِن مّن شَئ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] ومعنى {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض}: جعلناه مستقرّاً فيها ينتفعون به وقت حاجتهم إليه كالماء الذي يبقى في المستنقعات والغدران ونحوها {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون} أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه، ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى، وفي هذا تهديد شديد لما يدلّ عليه من قدرته سبحانه على إذهابه وتغويره حتى يهلك الناس بالعطش وتهلك مواشيهم، ومثله قوله: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} [الملك: 30].
ثم بين سبحانه ما يتسبب عن إنزال فقال: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب} أي أوجدنا بذلك الماء جنات من النوعين المذكورين {لَكُمْ فِيهَا} أي في هذه الجنات {فواكه كَثِيرَةٌ}. تتفكهون بها وتتطعمون منها، وقيل: المعنى: ومن هذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعاشكم كقوله: فلان يأكل من حرفة كذا، وهو بعيد، واقتصر سبحانه على النخيل والأعناب؛ لأنها الموجودة بالطائف والمدينة وما يتصل بذلك.
كذا قال ابن جرير. وقيل: لأنها أشرف الأشجار ثمرة وأطيبها منفعة وطعماً ولذّة. قيل: المعنى بقوله: {لَّكُمْ فِيهَا فواكه} أن لكم في هذه الجنات فواكه من غير العنب والنخيل. وقيل: المعنى لكم في هذين النوعين خاصة فواكه؛ لأن فيهما أنواعاً مختلفة متفاوتة في الطعم واللون.
وقد اختلف أهل الفقه في لفظ الفاكهة على ماذا يطلق؟ اختلافاً كثيراً، وأحسن ما قيل: إنها تطلق على الثمرات التي يأكلها الناس، وليست بقوت لهم ولا طعام ولا إدام. واختلف في البقول هل تدخل في الفاكهة أم لا؟
وانتصاب {شجرة} على العطف على {جنات}. وأجاز الفراء الرفع على تقدير: وثم شجرة فتكون مرتفعة على الابتداء، وخبرها محذوف مقدّر قبلها، وهو الظرف المذكور. قال الواحدي: المفسرون كلهم يقولون: إن المراد بهذه الشجرة: شجرة الزيتون، وخصت بالذكر، لأنه لا يتعاهدها أحد بالسقي، وهي التي يخرج الدهن منها، فذكرها الله سبحانه امتناناً منه على عباده بها؛ ولأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً وأكثرها بركة، ثم وصف سبحانه هذه الشجرة بأنها {تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء} وهو جبل ببيت المقدّس، والطور الجبل في كلام العرب. وقيل: هو مما عرّب من كلام العجم. واختلف في معنى سيناء فقيل: هو الحسن. وقيل: هو المبارك، وذهب الجمهور إلى أنه اسم للجبل كما تقول: جبل أحد. وقيل: سيناء حجر بعينه أضيف الجبل إليه لوجوده عنده. وقيل: هو كلّ جبل يحمل الثمار. وقرأ الكوفيون: {سيناء} بفتح السين، وقرأ الباقون بكسر السين، ولم يصرف لأنه جعل اسماً للبقعة، وزعم الأخفش أنه أعجمي. وقرأ الجمهور: {تنبت بالدهن} بفتح المثناة وضمّ الباء الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ المثناة وكسر الباء الموحدة. والمعنى على القراءة الأولى: أنها تنبت في نفسها متلبسة بالدهن، وعلى القراءة الثانية: الباء بمعنى مع، فهي للمصاحبة. قال أبو عليّ الفارسي: التقدير: تنبت جناها ومعه الدهن. وقيل: الباء زائدة، قاله أبو عبيدة، ومثله قول الشاعر:
هنّ الحرائر لا ربات أحمرة *** سود المحاجر لا يقرأن بالسور
وقال آخر:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج ***
وقال الفراء والزجاج: إن نبت وأنبت بمعنى، والأصمعي ينكر أنبت، ويرد عليه قول زهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
أي نبت. وقرأ الزهري والحسن والأعرج: {تنبت} بضم المثناة وفتح الموحدة. قال الزجاج وابن جني: أي تنبت ومعها الدهن، وقرأ ابن مسعود: {تخرج} بالدهن، وقرأ زرّ بن حبيش: {تنبت الدهن} بحذف حرف الجرّ. وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب: {بالدهان} {وَصِبْغٍ لّلآكِلِيِنَ} معطوف على الدهن، أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به. وكونه صبغاً يؤتدم به. قرأ الجمهور: {صبغ}، وقرأ قوم {صباغ} مثل لبس ولباس.
وكل إدام يؤتدم به فهو صبغ وصباغ. وأصل الصبغ: ما يلّون به الثوب، وشبه الإدام به؛ لأن الخبز يكون بالإدام كالمصبوغ به.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الانعام لَعِبْرَةً} هذه من جملة النعم التي امتنّ الله بها عليهم.
وقد تقدّم تفسير الأنعام في سورة النحل. قال النيسابوري في تفسيره: ولعلّ القصد بالأنعام هنا إلى الإبل خاصة؛ لأنها هي المحمول عليها في العادة؛ ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البرّ، كما أن الفلك سفائن البحر. وبين سبحانه أنها عبرة؛ لأنها مما يستدل بخلقها وأفعالها على عظيم القدرة الإلهية، ثم فصل سبحانه ما في هذه الأنعام من النعم بعد ما ذكره من العبرة فيها للعباد فقال: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِي بُطُونِهَا} يعني سبحانه: اللبن المتكوّن في بطونها المنصبّ إلى ضروعها، فإن في انعقاد ما تأكله من العلف واستحالته إلى هذا الغذاء اللذيذ، والمشروب النفيس أعظم عبرة للمعتبرين، وأكبر موعظة للمتعظين. وقرئ: {نسقيكم} بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه، وقرئ بالتاء الفوقية على أن الفاعل هو الأنعام، ثم ذكر ما فيها من المنافع إجمالاً فقال: {وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ} يعني: في ظهورها وألبانها وأولادها وأصوافها وأشعارها، ثم ذكر منفعة خاصة فقال: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} لما في الأكل من عظيم الانتفاع لهم.
وكذلك ذكر الركوب عليها لما فيه من المنفعة العظيمة فقال: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي وعلى الأنعام، فإن أريد بالأنعام الإبل والبقر والغنم، فالمراد وعلى بعض الأنعام، وهي الإبل خاصة، وإن أريد بالأنعام الإبل خاصة، فالمعنى واضح. ثم لما كانت الأنعام هي غالب ما يكون الركوب عليه في البرّ ضمّ إليها ما يكون الركوب عليه في البحر، فقال: {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} تميماً للنعمة وتكميلاً للمنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: السلالة: صفو الماء الرقيق الذي يكون منه الولد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر فتمكث أربعين يوماً، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة. وللتابعين في تفسير السلالة أقوال قد قدّمنا الإشارة إليها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} قال: الشعر والأسنان.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه: {أنشأناه خلقاً آخر} قال: نفخ فيه الروح، وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والربيع بن أنس والسديّ والضحاك وابن زيد، واختاره ابن جرير.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} قال: حين استوى به الشباب.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} قال عمر: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} قال: «والذي نفسي بيده إنها ختمت بالذي تكلمت به يا عمر».
وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام؟ فأنزل الله: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وقلت: يا رسول الله، لو اتخذت على نسائك حجاباً فإنه يدخل عليك البرّ والفاجر، فأنزل الله: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} [الأحزاب: 53] وقلت لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم: لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله أزواجاً خيراً منكنّ، فنزلت: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] الآية، ونزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة} إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} فقلت أنا: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}.
وأخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال: أملى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إلى قوله: {خَلْقاً ءَاخَرَ} فقال معاذ بن جبل: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: «بها ختمت {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}» وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف جداً. قال ابن كثير: وفي خبره هذا نكارة شديدة، وذلك أن هذه السورة مكية، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة، والله أعلم.
وأخرج ابن مردويه والخطيب، قال السيوطي: بسند ضعيف، عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل، فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض، وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم، فذلك قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل، فرفع من الأرض القرآن والعلم، والحجر من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع كل ذلك إلى السماء، فذلك قوله: {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لقادرون} فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، قال: طور سيناء هو الجبل الذي نودي منه موسى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {تَنبُتُ بالدهن} قال: هو الزيت يؤكل ويدهن به.


لما ذكر سبحانه الفلك أتبعه بذكر نوح؛ لأنه أوّل من صنعه، وذكر ما صنعه قوم نوح معه بسبب إهمالهم للتفكر في مخلوقات الله سبحانه والتذكر لنعمه عليهم فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} وفي ذلك تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له ببيان أن قوم غيره من الأنبياء كانوا يصنعون مع أنبيائهم ما يصنعه قومه معه، واللام جواب قسم محذوف {فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله} أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً كما يستفاد من الآيات الآخرة، وجملة: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} واقعة موقع التعليل لما قبلها، وارتفاع {غيره} لكونه وصفاً لإله على المحل؛ لأنه مبتدأ خبره لكم، أي ما لكم في الوجود إله غيره سبحانه، وقرئ بالجرّ اعتباراً بلفظ إله {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون أن تتركوا عبادة ربكم الذي لا يستحقّ العبادة غيره، وليس لكم إله سواه. وقيل: المعنى أفلا تخافون أن يرفع عنكم ما خوّلكم من النعم ويسلبها عنكم. وقيل: المعنى: أفلا تقون أنفسكم عذابه الذي تقتضيه ذنوبكم.
{فَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي قال أشراف قومه الذين كفروا به: {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي من جنسكم في البشرية، لا فرق بينكم وبينه {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يطلب الفضل عليكم بأن يسودكم حتى تكونوا تابعين له منقادين لأمره، ثم صرّحوا بأن البشر لا يكون رسولاً فقالوا: {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} أي لو شاء الله إرسال رسول لأرسل ملائكة، وإنما عبر بالإنزال عن الإرسال؛ لأن إرسالهم إلى العباد يستلزم نزولهم إليهم {مَا سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} أي بمثل دعوى هذا المدّعي للنبوّة من البشر، أو بمثل كلامه، وهو الأمر بعبادة الله وحده أو ما سمعنا ببشر يدّعي هذه الدعوى في آبائنا الأوّلين، أي في الأمم الماضية قبل هذا. وقيل: الباء في: {بهذا} زائدة، أي ما سمعنا هذا كائناً في الماضين، قالوا: هذا اعتماداً منهم على التقليد واعتصاماً بحبله. ولم يقنعوا بذلك حتى ضموا إليه الكذب البحت، والبهت الصراح فقالوا: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جنون لا يدري ما يقول: {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ} أي انتظروا به حتى يستبين أمره، بأن يفيق من جنونه فيترك هذه الدعوى، أو حتى يموت فتستريحوا منه. قال الفراء: ليس يريد بالحين هنا وقتاً بعينه إنما هو كقولهم: دعه إلى يوم ما. فلما سمع عليه الصلاة والسلام كلامهم وعرف تماديهم على الكفر وإصرارهم عليه {قَالَ رَبّ انصرني} عليهم فانتقم منهم بما تشاء وكيف تريد، والباء في: {بِمَا كَذَّبُونِ} للسببية، أي: بسبب تكذيبهم إياي.
{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عند ذلك أي أرسلنا إليه رسولاً من السماء {أَنِ اصنع الفلك} وأن هي مفسرة لما في الوحي من معنى القول: {بِأَعْيُنِنَا} أي متلبساً بحفظنا وكلاءتنا، وقد تقدّم بيان هذا في هود. ومعنى {وَوَحْيِنَا}: أمرنا لك وتعليمنا إياك لكيفية صنعها، والفاء في قوله: {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من صنع الفلك، والمراد بالأمر: العذاب {وَفَارَ التنور} معطوف على الجملة التي قبله عطف النسق؛ وقيل: عطف البيان، أي إن مجيء الأمر هو فور التنور، أي تنور آدم الصائر إلى نوح، أي إذا وقع ذلك {فاسلك فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي ادخل فيها، يقال: سلكه في كذا أدخله وأسلكته أدخلته. قرأ حفص: {من كلّ} بالتنوين، وقرأ الباقون بالإضافة، ومعنى القراءة الأولى: من كلّ أمة زوجين، ومعنى الثانية: من كل زوجين، وهما أمة الذكر والأنثى اثنين، وانتصاب {أَهْلَكَ} بفعل معطوف على {فاسلك} لا بالعطف على زوجين، أو على {اثنين} على القراءتين لأدائه إلى اختلاف المعنى، أي واسلك أهلك {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي القول بإهلاكهم منهم {وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُواْ} بالدعاء لهم بإنجائهم، وجملة: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} تعليل للنهي عن المخاطبة أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لظلمهم، ومن كان هكذا فهو لا يستحق الدعاء له.
{فَإِذَا استويت} أي: علوت {أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} من أهلك وأتباعك {عَلَى الفلك} راكبين عليه {فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} أي حال بيننا وبينهم، وخلصنا منهم، كقوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الأنعام: 45].
وقد تقدّم تفسير هذه القصة في سورة هود على التمام والكمال، وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً؛ لأنه قد سبق في علمه أن ذلك سبب نجاتهم من الظلمة، وسلامتهم من أن يصابوا بما أصيبوا به من العذاب.
ثم أمره أن يسأل ربه ما هو أنفع له وأتمّ فائدة فقال: {وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} أي أنزلني في السفينة. قرأ الجمهور: {منزلاً} بضم الميم وفتح الزاي على أنه مصدر. وقرأ زرّ بن حبيش وأبو بكر عن عاصم والمفضل بفتح الميم وكسر الزاي على أنه اسم مكان. فعلى القراءة الأولى: أنزلني إنزالاً مباركاً، وعلى القراءة الثانية: أنزلني مكاناً مباركاً، قال الجوهري: والمنزل بفتح الميم والزاي النزول، وهو الحلول، تقول: نزلت نزولاً ومنزلاً. قال الشاعر:
أإن ذكرتك الدار منزلها جمل *** بكيت فدمع العين منحدر سجل
بنصب منزلها؛ لأنه مصدر. قيل: أمره الله سبحانه بأن يقول هذا القول عند دخوله السفينة. وقيل: عند خروجه منها، والآية تعليم من الله لعباده إذا ركبوا ثم نزلوا أن يقولوا هذا القول: {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} هذا ثناء منه على الله عزّ وجلّ إثر دعائه له.
قال الواحدي: قال المفسرون: إنه أمر أن يقول عند استوائه على الفلك: الحمد لله، وعند نزوله منها: ربّ أنزلني منزلاً مباركاً، والإشارة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إلى ما تقدّم مما قصه الله علينا من أمر نوح عليه السلام: والآيات الدلالات على كمال قدرته سبحانه، والعلامات التي يستدلّ بها على عظيم شأنه {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي لمختبرين لهم بإرسال الرسل إليهم؛ ليظهر المطيع والعاصي للناس أو للملائكة. وقيل: المعنى: إنه يعاملهم سبحانه معاملة المختبر لأحوالهم، تارة بالإرسال، وتارة بالعذاب.
{ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ} أي من بعد إهلاكهم. قال أكثر المفسرين: إن هؤلاء الذين أنشأهم الله بعدهم هم عاد قوم هود، لمجيء قصتهم على إثر قصة نوح في غير هذا الموضع، ولقوله في الأعراف: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]. وقيل: هم ثمود؛ لأنهم الذين أهلكوا بالصيحة.
وقد قال سبحانه في هذه القصة: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} [الحجر: 73 و83]. وقيل: هم أصحاب مدين قوم شعيب؛ لأنهم ممن أهلك بالصيحة {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً} عدّى فعل الإرسال بفي مع أنه يتعدّى بإلى؛ للدلالة على أن هذا الرسول المرسل إليهم نشأ فيهم بين أظهرهم، يعرفون مكانه ومولده، ليكون سكونهم إلى قوله أكثر من سكونهم إلى من يأتيهم من غير مكانهم. وقيل: وجه التعدية للفعل المذكور بفي أنه ضمن معنى القول، أي قلنا لهم على لسان الرسول {اعبدوا الله} ولهذا جيء بأن المفسرة. والأوّل أولى؛ لأن تضمين أرسلنا معنى قلنا لا يستلزم تعديته بفي، وجملة: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} تعليل للأمر بالعبادة {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عذابه الذي يقتضيه شرككم.
{وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ} أي أشرافهم وقادتهم. ثم وصف الملأ بالكفر والتكذيب فقال: {الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة} أي كذبوا بما في الآخرة من الحساب والعقاب، أو كذبوا بالبعث {وأترفناهم} أي وسعنا لهم نعم الدنيا فبطروا بسبب ما صاروا فيه {في الحياة الدنيا} من كثرة الأموال ورفاهة العيش {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} أي قال الملأ لقومهم هذا القول، وصفوه بمساواتهم في البشرية، وفي الأكل: {مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} والشرب: {مما تشربون} منه، وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم. قال الفرّاء: إن معنى {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} على حذف منه أي: مما تشربون منه وقيل: إن ما مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد.
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ} فيما ذكر من الأوصاف {إِنَّكُمْ إذاً لخاسرون} أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم. والاستفهام في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتمْ} للإنكار، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تقبيح اتباعهم له.
قرئ بكسر الميم من {متم}، من مات يمات كخاف يخاف، وقرئ بضمها من مات يموت، كقال يقول. {وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما} أي كان بعض أجزائكم تراباً، وبعضها عظاماً نخرة لا لحم فيها ولا أعصاب عليها. وقيل: وتقديم التراب؛ لكونه أبعد في عقولهم. وقيل: المعنى: كان متقدّموكم تراباً، ومتأخروكم عظاماً {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} أي من قبوركم أحياء كما كنتم، قال سيبويه: (أنّ) الأولى في موضع نصب بوقوع أيعدكم عليها، وأن الثانية بدلّ منها.
وقال الفرّاء والجرمي والمبرّد: إن (أن) الثانية مكرّرة للتوكيد، وحسن تكريرها لطول الكلام، وبمثله قال الزجاج.
وقال الأخفش: (أن) الثانية في محل رفع بفعل مضمر، أي يحدث إخراجكم كما تقول: اليوم القتال، فالمعنى: اليوم يحدث القتال.
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بعد ما توعدون، أو بعيد ما توعدون، والتكرير للتأكيد. قال ابن الأنباري: وفي هيهات عشر لغات ثم سردها، وهي مبينة في علم النحو.
وقد قرئ ببعضها، واللام في {لما توعدون} لبيان المستبعد كما في قولهم: هيت لك، كأنه قيل: لماذا هذا الاستبعاد؟ فقيل: لما توعدون. والمعنى: بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون، هذا على أن هيهات اسم فعل، وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر، أي البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون، على قراءة من نوّن فتكون على هذا مبتدأ خبره: {لما توعدون}.
ثم بين سبحانه إترافهم بأنهم قالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها، وجملة: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} مفسرة لما ادّعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا. ثم صرحوا بنفي البعث، وأن الوعد به منه افتراء على الله فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً} أي ما هو فيما يدّعيه إلا مفتر للكذب على الله {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي بمصدّقين له فيما يقوله. {قَالَ رَبّ انصرنى} أي: قال نبيهم لما علم بأنهم لا يصدّقونه ألبتة: ربّ انصرني عليهم وانتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي.
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} أي قال الله سبحانه مجيباً لدعائه واعداً له بالقبول لما دعا به: عما قليل من الزمان ليصبحن نادمين على ما وقع منهم من التكذيب والعناد والإصرار على الكفر. و{ما} في: {عما قليل} مزيدة بين الجارّ والمجرور للتوكيد لقلة الزمان كما في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} [آل عمران: 159].
ثم أخبر سبحانه بأنها {أَخَذَتْهُمُ الصيحة} وحاق بهم عذابه ونزل عليهم سخطه. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعاً.
وقيل: الصيحة: هي نفس العذاب الذي نزل بهم، ومنه قول الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة *** خرّوا لشدّتها على الأذقان
والباء في: {بالحق} متعلق بالأخذ، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم: فقال: {فجعلناهم غُثَاء} أي كغثاء السيل الذي يحمله: والغثاء ما يحمله، والغثاء: ما يحمل السيل من بالي الشجر والحشيش والقصب ونحو ذلك مما يحمله على ظاهر الماء. والمعنى: صيرهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء {فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين} انتصاب {بعداً} على المصدرية وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها، أي بعدوا بعداً، واللام لبيان من قيل له ذلك.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فاسلك فِيهَا} يقول: اجعل معك في السفينة {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} قال لنوح حين أنزل من السفينة.
وأخرج هؤلاء عن قتادة في الآية قال: يعلمكم سبحانه كيف تقولون إذا ركبتم، وكيف تقولون إذا نزلتم. أما عند الركوب: {فسبحان الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 13، 14]، {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41]. وعند النزول: {رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {قَرْناً} قال: أمة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} قال: بعيد بعيد.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {فجعلناهم غُثَاء} قال: جعلوا كالشيء الميت البالي من الشجر.

1 | 2 | 3